أفلا يتدبرون القرآن

أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها

أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ

أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ

إن هذه الآيات في تصوير طبيعة الهدى وطبيعة الإيمان إنما تعبر تعبيراً حقيقياً واقعياً عن حقيقة واقعية كذلك .إن ما يبدو فيها من تشبيه ومجاز إنما هو لتجسيم هذه الحقيقة في الصورة الموحية المؤثرة ; ولكن العبارة في ذاتها حقيقية .

إن نوع الحقيقة التي تعبر هذه الآيات عنها هو الذي يقتضي هذه الايقاعات التصويرية . فهي حقيقة , نعم . ولكنها حقيقة روحية وفكرية . حقيقة تذاق بالتجربة . ولا تملك العبارة إلا أن تستحضر مذاق التجربة ولكن لمن ذاقها فعلا !

إن هذه العقيدة تنشئ في القلب حياة بعد الموت ; وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات . حياة يعيد بها تذوق كل شيء , وتصور كل شيء , وتقدير كل شيء بحس آخر لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة . ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعته وفي مجاله جديداً كما لم يبد من قبل قط لذلك القلب الذي نوره الإيمان .

هذه التجربة لا تنقلها الألفاظ . يعرفها فقط من ذاقها . . والعبارة القرآنية هي أقوى عبارة تحمل حقيقة هذه التجربة . لأنها تصورها بألوان من جنسها ومن طبيعتها .

إن الكفر انقطاع عن الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية , التي لا تفنى ولا تغيض ولا تغيب . فهو موت . . وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الوجود كله . . فهو موت . . وانطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية . . فهو موت . .

والإيمان اتصال , واستمداد , واستجابة . . فهو حياة . .

إن الكفر حجاب للروح عن الاستشراق الاستشراف والاطلاع . . فهو ظلمة . . وختم على الجوارح والمشاعر . . فهو ظلمة . . وتيه في التيه وضلال . . فهو ظلمة . .

وإن الإيمان تفتح ورؤية , وإدراك واستقامة . . فهو نور بكل مقومات النور . .

إن الكفر انكماش وتحجر . . فهو ضيق . . وشرود عن الطريق الفطري الميسر . . فهو عسر . . وحرمان من الاطمئنان إلى الكنف الآمن . . فهو قلق . .

وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة وظل ممدود . .

وما الكافر ? إن هو إلا نبتة ضالة لا وشائج لها في تربة هذا الوجود ولا جذور . . إن هو إلا فرد منقطع الصلة بخالق الوجود , فهو منقطع الصلة بالوجود . لا تربطه به إلا روابط هزيلة من وجوده الفردي المحدود . في أضيق الحدود . في الحدود التي تعيش فيها البهيمة . حدود الحس وما يدركه الحس من ظاهر هذا الوجود !

إن الصلة بالله , والصلة في الله , لتصل الفرد الفاني بالأزل القديم والأبد الخالد . ثم تصله بالكون الحادث والحياة الظاهرة . . ثم تصله بموكب الإيمان والأمة الواحدة الضاربة في جذور الزمان . الموصولة على مدار الزمان . . فهو في ثراء من الوشائج , وفي ثراء من الروابط . وفي ثراء من "الوجود" الزاخر الممتد اللاحب , الذي لا يقف عند عمره الفردي المحدود .

ويجد الإنسان في قلبه هذا النور , فتتكشف له حقائق هذا الدين , ومنهجه في العمل والحركة , تكشفا عجيبا . . إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يجده الإنسان في قلبه حين يجد هذا النور . . مشهد التناسق الشامل العجيب في طبيعة هذا الدين وحقائقه . ومشهد التكامل الجميل الدقيق في منهجه للعمل وطريقته . إن هذا الدين لا يعود مجموعة معتقدات وعبادات وشرائع وتوجيهات . . إنما يبدو "تصميما" واحدا متداخلا متراكبا متناسقا . . متعاشقا يبدو حيا يتجاوب مع الفطرة وتتجاوب معه في ألفة عميقة وفي صداقة وثيقة , وفي حب ودود !

ويجد الإنسان في قلبه هذا النور ; فتتكشف له حقائق الوجود , وحقائق الحياة , وحقائق الناس , وحقائق الأحداث التي تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس . . تتكشف له في مشهد كذلك رائع باهر . . مشهد السنة الدقيقة التي تتوالى مقدماتها ونتائجها في نظام محكم ولكنه فطري ميسر . . ومشهد المشيئة القادرة من وراء السنة الجارية تدفع بالسنة لتعمل وهي من ورائها محيطة طليقة . . ومشهد الناس والأحداث وهم في نطاق النواميس وهي في هذا النطاق أيضاً .

ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فيجد الوضوح في كل شأن وفي كل أمر وفي كل حدث . . يجد الوضوح في نفسه وفي نواياه وخواطره وخطته وحركته . ويجد الوضوح فيما يجري حوله سواء من سنة الله النافذة , أو من أعمال الناس ونواياهم وخططهم المستترة والظاهرة ! ويجد تفسير الأحداث والتاريخ في نفسه وعقله وفي الواقع من حوله , كأنه يقرأ من كتاب !

ويجد الإنسان في قلبه هذا النور , فيجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه ! ويجد الراحة في باله وحاله ومآله ! ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها , وفي استقبال الأحداث واستدبارها ! ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي كل حين !

وهكذا يصور التعبير القرآني الفريد تلك الحقيقة بإيقاعاته الموحية:

(أو من كان ميتا فأحييناه , وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس , كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ?).

كذلك كان المسلمون قبل هذا الدين . قبل أن ينفخ الإيمان في أرواحهم فيحييها , ويطلق فيها هذه الطاقة الضخمة من الحيوية والحركة والتطلع والاستشراف . . كانت قلوبهم مواتا . وكانت أرواحهم ظلاما . . ثم إذا قلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز , وإذا أرواحهم يشرق فيها النور فتضيء , ويفيض منها النور فتمشي به في الناس تهدي الضال , وتلتقط الشارد , وتطمئن الخائف , وتحرر المستعبد , وتكشف معالم الطريق للبشر وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد . الإنسان المتحرر المستنير ; الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد !

أفمن نفخ الله في روحه الحياة , وأفاض على قلبه النور . . كمن حاله أنه في الظلمات , لا مخرج له منها ? إنهما عالمان مختلفان شتان بينهما شتان ! فما الذي يمسك بمن في الظلمات والنور حوله يفيض ?

(كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون). .

هذا هو السر . . إن هناك تزيينا للكفر والظلمة والموت ! والذي ينشئ هذا التزيين ابتداء هو مشيئة الله التي أودعت فطرة هذا الكائن الإنساني الاستعداد المزدوج لحب النور وحب الظلمة , تبتليه بالاختيار للظلمة أو النور . فإذا اختار الظلمة زينت له ; ولج في الضلال حتى لا يخرج من الظلمة ولا يعود , ثم إن هناك شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً , ويزينون للكافرين ما يعملون . . والقلب الذي ينقطع عن الحياة والإيمان والنور , يسمع في الظلمة للوسوسة ; ولا يرى ولا يحس ولا يميز الهدى من الضلال في ذلك الظلام العميق ! . . وكذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون . 




0 comments: