أفلا يتدبرون القرآن

أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها

يْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً

ثم يعقب السياق بقاعدة الإسلام الكبرى في العمل والجزاء . . إن ميزان الثواب والعقاب ليس موكولا إلى الأماني . إنه يرجع إلى أصل ثابت , وسنة لا تتخلف , وقانون لا يحابي . قانون تستوي أمامه الأمم - فليس أحد يمت إلى الله سبحانه بنسب ولا صهر - وليس أحد تخرق له القاعدة , وتخالف من أجله السنة , ويعطل لحسابه القانون . . إن صاحب السوء مجزى بالسوء ; وصاحب الحسنة مجزى بالحسنة . ولا محاباة في هذا ولا مماراة:

ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب . من يعمل سوءا يجز به , ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا . . ومن يعمل من الصالحات - من ذكر أو أنثى وهو مؤمن - فأولئك يدخلون الجنة , ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله - وهو محسن - واتبع ملة إبراهيم حنيفا , واتخذ الله إبراهيم خليلاً .

ولقد كان اليهود والنصارى يقولون: (نحن أبناء الله وأحباؤه). . وكانوا يقولون: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة). . وكان اليهود ولا يزالون يقولون:إنهم شعب الله المختار !

ولعل بعض المسلمين كانت تراود نفوسهم كذلك فكرة أنهم خير أمة أخرجت للناس . وأن الله متجاوز عما يقع منهم . . بما أنهم المسلمون . .

فجاء هذا النص يرد هؤلاء وهؤلاء إلى العمل , والعمل وحده . ويرد الناس كلهم إلى ميزان واحد . هو إسلام الوجه لله - مع الإحسان - واتباع ملة إبراهيم وهي الإسلام . إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا . .

فأحسن الدين هو هذا الإسلام - ملة إبراهيم - وأحسن العمل هو "الإحسان" . . والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . وقد كتب الإحسان في كل شيء حتى في إراحة الذبيحة عند ذبحها , وحد الشفرة , حتى لا تعذب وهي تذبح !

وفي النص تلك التسوية بين شقي النفس الواحدة , في موقفهما من العمل والجزاء ; كما أن فيه شرط الإيمان لقبول العمل , وهو الإيمان بالله:

(ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى - وهو مؤمن - فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا). .

وهو نص صريح على وحدة القاعدة في معاملة شقي النفس الواحدة - من ذكر أو أنثى . كما هو نص صريح في اشتراط الإيمان لقبول العمل . وأنه لا قيمة عند الله لعمل لا يصدر عن الإيمان . ولا يصاحبه الإيمان . وذلك طبيعي ومنطقي . لأن الإيمان بالله هو الذي يجعل العمل الصالح يصدر عن تصور معين وقصد معلوم ; كما يجعله حركة طبيعية مطردة , لا استجابة لهوى شخصي , ولا فلتة عابرة لا تقوم على قاعدة . .

وهذه الألفاظ الصريحة تخالف ما ذهب إليه الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في تفسير جزء "عم" عند قوله تعالى:(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره). . إذ رأى النص لعمومه هذا يشمل المسلم وغير المسلم . بينما النصوص الصريحة الأخرى تنفي هذا تماما . وكذلك ما رآه الأستاذ الشيخ المراغي - رحمه الله . وقد أشرنا إلى هذه القصة في جزء عم [ الجزء الثلاثين من الظلال ] .

ولقد شق على المسلمين قول الله لهم:

(ومن يعمل سوء ا يجز به , ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرًا). .

فقد كانوا يعرفون طبيعة النفس البشرية ; ويعرفون أنها لا بد أن تعمل سوءا . مهما صلحت , ومهما عملت من حسنات .

كانوا يعرفون النفس البشرية - كما هي في حقيقتها - وكانوا من ثم يعرفون أنفسهم . . لم يخدعوا أنفسهم عن حقيقتها ; ولم يخفوا عن أنفسهم سيئاتها ; ولم يتجاهلوا ما يعتور نفوسهم من ضعف أحيانا , ولم ينكروا أو يغطوا هذا الضعف الذي يجدونه . ومن ثم ارتجفت نفوسهم , وهم يواجهون بأن كل سوء يعملونه يجزون به . ارتجفت نفوسهم كالذي يواجه العاقبة فعلا ويلامسها , وهذه كانت ميزتهم . أن يحسوا الآخرة على هذا النحو , ويعيشوا فيها فعلا بمشاعرهم كأنهم فيها . لا كأنها آتية لا ريب فيها فحسب ! ومن ثم كانت رجفتهم المزلزلة لهذا الوعيد الأكيد !

قال الإمام أحمد:حدثنا عبدالله بن نمير , حدثنا إسماعيل , عن أبي بكر بن أبي زهير , قال:"أخبرت أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال:"يا رسول الله , كيف الفلاح بعد هذه الآية ? (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب , من يعمل سوءا يجز به). . فكل سوء عملناه جزينا به . . فقال النبى [ ص ]:" غفر الله لك يا أبا بكر . ألست تمرض ? ألست تنصب ? ألست تحزن ? ألست تصيبك اللأواء ? " قال بلى ! قال:" فهو مما تجزون به " . . [ ورواه الحاكم عن طريق سفيان الثورى عن إسماعيل . ]

وروى أبو بكر بن مردويه - بإسناده - إلى ابن عمر , يحدث عن أبى بكر الصديق . قال:كنت عند النبى [ ص ] فنزلت هذه الآية: (من يعمل سوءا يجز به , ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرًا)فقال رسول الله [ ص ]:" يا أبا بكر , ألا أقرئك آية نزلت علي ? " قال:قلت يا رسول الله فأقرأنيها . . فلا أعلم أني قد وجدت انفصاما في ظهري , حتى تمطيت لها ! فقال رسول الله [ ص ]:" مالك يأ أبا بكر ? " فقلت:بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! وأينا لم يعمل السوء , وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ! فقال رسول الله [ ص ]:" أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا , حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب . وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة " . [ وكذا رواه الترمذي ] .

وروى ابن أبى حاتم - بإسناده - عن عائشة قالت:قلت يا رسول الله إنى لأعلم أشد آية في القرآن . فقال:" ما هي يا عائشة ? " قلت: (من يعمل سوءا يجز به)فقال . " ما يصيب العبد المؤمن , حتى النكبة ينكبها " . [ ورواه ابن جرير ] .

وروى مسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة - بإسناده - عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال:لما نزلت: (من يعمل سوءا يجز به)شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله [ ص ]:" سددوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة . حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها " . .

على أية حال لقد كانت هذه حلقة في إنشاء التصور الإيماني الصحيح عن العمل والجزاء . ذات أهمية كبرى في استقامة التصور من ناحية , واستقامة الواقع العملي من ناحية أخرى . ولقد هزت هذه الآية كيانهم , ورجفت لها نفوسهم , لأنهم كانوا يأخذون الأمر جدا . ويعرفون صدق وعد الله حقا . ويعيشون هذا الوعد ويعيشون الآخرة وهم بعد في الدنيا .

0 comments: