أفلا يتدبرون القرآن

أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها



إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ



هذا كحال المنافقين الذين قال الله عز وجل عنهم : ( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ) 

قال رجل لوهب بن الورد : عظني فقال له : اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك .

وكان بعض السلف يقول : أتراك ترحم من لم يقرّ عينيه بمعصيتك حتى علم أن لا عين تراه غيرُك .

وقال بعضهم : ابن آدم إن كنت حيث ركبت المعصية لم تَصْفُ لك من عينٍ ناظرةٍ إليك ، فلما خلوت بالله وحده صفت لك معصيته ، ولم تستحي منه حياءك من بعض خلقه ، ما أنت إلا أحدُ رجلين : 
إن كنت ظننت أنه لا يراك فقد كفرت .
وإن كنت علمت أنه يراك فلم يمنعك منه ما منعك من أضعف خلقه لقد اجترأت عليه .

وكان بعض السلف يقول لأصحابه : زهدنا الله وإياكم في الحرام زهد من قدر عليه في الخلوة ، فَعَلِمَ أن الله يراه فتركه من خشيته

وقال الشافعي : أعز الأشياء ثلاثة : الجود من قلة ، والورع في خلوة ، وكلمة الحق عند من يُرجى أو يخاف .

وكتب ابن السماك الواعظ إلى أخ لـه : أما بعد أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيّك في سريرتك ورقيبك ، فاجعل الله من بالك على كل حال في ليلك ونهارك ، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك ، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره ، ولا من ملكه إلى ملك غيره ، فليعظم منه حذرك وليكثر منه وجلك ، والسلام . 

وكان ابن السماك ينشد :

يا مدمن الذنب أما تستحي = والله في الخلوة ثانيكا 
غـرّك من ربك إمهالُـه = وستره طولَ مساويكا

ومراقبة الله عز وجل حال الخلوة أعظم
وفي قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار ... فقال أحدهم : 
اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إليّ ، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ، ففعلت ، حتى إذا قدرت عليها قالت : لا أُحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه ، فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ وتركت الذهب الذي أعطيتها . اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه ، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها ... الحديث . رواه البخاري ومسلم . 
وفي رواية لمسلم : فلما وقعت بين رجليها قالت : يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه ، فقمت عنها ، فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة ، ففُرِج لهم .
فلما ذكرته بالله تذكّر وانتفض وتذكّر أن الله مطّلع عليه ناظر إليه .

ودخل رجل غيضة فقال : لو خلوت ها هنا بمعصية من كان يراني ؟ فسمع صوتا ملأ ما بين لابتي الغيضة ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) ؟

ولقي رجل أعرابية فأرادها على نفسها فأبت ، وقالت : أي ثكلتك أمك أمالك زاجر من كرم ؟ أمالك ناه من دين ؟ 
قال : والله لا يرانا إلا الكواكب ! 
قالت : ها بأبي أنت ! وأين مكوكبها ؟ . رواه البيهقي في الشعب .

قال محمد بن إسحاق : نزل السَّرِيُّ بن دينار في درب بمصر وكانت فيه امرأة جميلة فتنت الناس بجمالها ، فعلمت به المرأة ، فقالت : لأفتننه ؛ فلما دخلت من باب الدار تكشفت وأظهرت نفسها ، فقال : مَالَكِ ؟! فقالت : هل لك في فراش وطي ، وعيش رخي ، فأقبل عليها وهو يقول :

وكم ذي معاص نال منهن لذة = ومات فخلاّها وذاق الدواهيا 
تصرمُ لذّات المعاصي وتنقضي = وتبقى تِباعاتُ المعاصي كما هيا
فيا سوءتا والله راءٍ وسامع = لعبدٍ بعين الله يغشى المعاصيـا

كان لسليمان بن عبد الملك مؤذّن يؤذنه في قصره بأوقات الصلاة ، فجاءته جارية له مولّدة فقالت : يا أمير المؤمنين إن فلاناً المؤذن إذا مررت به لم يُقلع ببصره عني ، وكان سليمان أشد الناس غيرة ، فهمّ أن يأمر بالمؤذّن ، ثم قال : تزيني وتطيبي وامضي إليه فقولي له : إنه لم يخفَ عني نظرك إليّ ، وبقلبي منك أكثر مما بقلبك مني ، فإن تكن لك حاجة فقد أمكنك مني ما تُريد ، وهذا أمير المؤمنين غافل ، فإن لم تُبادر لم أرجع إليك أبدا .
فمضت إلى المؤذن وقالت له ما قال لها 
فرفع طرفه إلى السماء وقال : يا جليل أين سترك الجميل ؟
ثم قال : اذهبي ولا ترجعي ، فعسى أن يكون الملتقى بين يدي مَن لا يخيّب الظنّ .
فرجعت إلى سليمان وأخبرته الخبر فأرسل إليه ، فلما دخل على سليمان قال له الحاجب : إن أمير المؤمنين رأى أن يهب لك فلانة ، ويحمل إليك معها خمسين ألف درهم تنفقها عليها .
قال : هيهات يا أمير المؤمنين ! إني والله ذبحت طمعي منها من أول لحظة رأيتها ، وجعلتها ذخيرة لي عند الله ، وأنا أستحيي أن أسترجع شيئا ادّخرته عنده .
فجهد به سليمان أن يأخذ المال والجارية فلم يفعل ، فكان يعجب منه ، ولا يزال يُحدّث أصحابه بحديثه .

يقول أبو محمد عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني في نونيته :

وإذا خلوت بريبة في ظلمة = والنفس داعية إلى الطغيانِ 
فاستحي من نظر الإله وقل لها : = إن الذي خلق الظلام يراني

قال ثعلب النحوي : كنت أحب أن أرى أحمد بن حنبل ، فدخلت عليه ، فقال لي : فيم تنظر ؟ فقلت : في النحو والعربية والشعر ، فأنشدني أحمد بن حنبل رحمة الله تعالى عليه :

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل = خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة = ولا أن ما يخفى عليه يغيب

عن قيس بن عباد قال : صلى عمار بن ياسر بالقوم صلاة أخفها ، فكأنهم أنكروها ، فقال : ألم أتم الركوع والسجود ؟ قالوا : بلى . قال : أمَـا إني دعوت فيها بدعاء كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به :
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي ، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وكلمة الحق في الرضا والغضب ، وأسألك نعيما لا ينفد ، وقرة عين لا تنقطع ، وأسألك الرضاء بالقضاء ، وبرد العيش بعد الموت ، ولذة النظر إلى وجهك ، والشوق إلى لقائك ، وأعوذ بك من ضراء مضرة ، وفتنة مضلة . اللهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداة مهتدين . رواه الإمام أحمد وغيره .

فاللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة .

كتبه
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

0 comments: