يكشف لهم عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم ; وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد , ويملؤها برا وبحرا بهذا الفساد , ويجعله مسيطرا على أقدارها , غالبا عليها:
(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس). .
فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثا , ولا يقع مصادفة ; إنما هو تدبير الله وسنته . . (ليذيقهم بعض الذي عملوا)من الشر والفساد , حينما يكتوون بناره , ويتألمون لما يصيبهم منه: (لعلهم يرجعون)فيعزمون على مقاومة الفساد , ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم
مجنون
واتى رجل مسلم الخولاني فقال له اوصني يا أبا مسلم قال اذكر الله تعالى تحت كل شجرة ومدرة فقال زدني فقال اذكر الله تعالى حتى يحسبك الناس من ذكر
النفوس كلبية وسبعية وملكية
إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا فهم الذين يضيقون الديار ويغلون الاسعار ان همة احدهم الا بطنه وفرجه فان ترقت همته كان همه مع ذلك لباسه وزينته فإن ترقت همته فوق ذلك كان همه في الرياسة والانتصار للنفس الغضبية فان ارتفعت همته عن نصرة النفس الغضبية كان همه في نصرة النفس الكلبية فلم يعطها إلى نصرة النفس السبعية فلم يعطها أحد من هؤلاء فان النفوس كلبية وسبعية وملكية
فالكلبية تقنع بالعظم والكسرة والجيفة والقذرة والسبعية لا تقنع بذلك بل تقهر النفوس تريد الاستيلاء عليها بالحق والباطل واما الملكية فقد ارتفعت عن ذلك وشمرت إلى الرفيق الاعلى فهمتها العلم والايمان ومحبة الله
فمن نسي الله تعالى انساه نفسه في الدنيا ونسيه في العذاب يوم القيامة
بها فمن نسي الله تعالى انساه نفسه في الدنيا ونسيه في العذاب يوم القيامة قال تعالى ) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ( أي تنسى في العذاب كما نسيت اياتي فلم تذكرها ولم تعمل بها واعراضه عن ذكره يتناول اعراضه عن الذكر الذي انزله وهو ان يذكر الذي انزله في كتابه وهو المراد بتناول اعراضه عن ان يذكر ربه بكتابه واسمائه وصفاته واوامره والائه ونعمه فان هذه كلها توابع اعراضه عن كتاب ربه تعالى فان الذكر في الاية اما مصدر مضاف إلى الفاعل أو مضاف اضافة الاسماء المحضة اعرض عن كتابي ولم يتله ولم يتدبره ولم يعمل به ولا فهمه فان حياته ومعيشته لا تكون الا مضيقة عليه منكده معذبا فيها
والضنك الضيق والشدة والبلاء ووصف المعيشة نفسها بالضنك مبالغة وفسرت هذه المعيشة بعذاب البرزخ والصحيح انها تتناول معيشته في الدنيا وحاله في البرزخ فانه يكون في ضنك في الدارين وهو شدة وجهد وضيق وفي الاخرة تنسى في العذاب وهذا عكس اهل السعادة والفلاح فان حياتهم في الدنيا اطيب الحياة ولهم في البرزخ وفي الاخرة افضل الثواب
قال تعالى ) من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ( فهذا في الدنيا ثم قال ولنجزيهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون فهذا في البرزخ والاخرة وقال تعالى ) والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (
وقال تعالى ) وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله ( فهذا في الاخرة وقال تعالى قل يا عبادي الذين امنوا اتقوا ربكم للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة و ارض الله واسعة انما يوفي الصابرون اجرهم بغير حساب فهذه اربعة مواضيع ذكر تعالى فيها انه يجزي المحسن باحسانه جزاءين جزاء في الدنيا وجزاء في الاخرة
فالاحسان له جزاء معجل ولا بد والإساءة لها جزاء معجل ولابد ولو لم يكن الا ما يجازي به المحسن من انشراح صدوره في انفساح قلبه وسروره ولذاته بمعاملة ربه عز وجل وطاعته وذكره ونعيم روحه بمحبته
وذكره وفرحه بربه سبحانه وتعالى اعظم مما يفرح القريب من السلطان الكريم عليه بسلطانه وما يجازي به المسئ من ضيق الصدر وقسوة القلب وتشتته وظلمته وحزازاته وغمه وهمه وحزنه وخوفه وهذا امر لايكاد من له ادنى حس وحياة يرتاب فيه بل الغموم والهموم والاحزان والضيق عقوبات عاجلة ونار دنيوية وجهنم حاضرة والاقبال على الله تعالى والانابة اليه والرضاء به وعنه وامتلاء القلب من محبته واللهج بذكره والفرح والسرور بمعرفته ثواب عاجل وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك اليه البته
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول ان في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الاخرة وقال لي مرة ما يصنع اعدائي بي انا جنتي وبستاني في صدري ان رحت فهي معي لا تفارقني ان حبسي خلوة وقتلي شهادة واخراجي من بلدي سياحة وكان يقول في محبسه في القلعة لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبا ما عدل عندي شكر هده النعمة او
قال ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا وكان يقول في سجوده وهو محبوس اللهم اعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ما شاء الله وقال لي مرة المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى والماسور من اسره هواه ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر اليه وقال ) فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ( وعلم الله ما رايت احدا اطيب عيشا منه قط مع كل ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والارهاق وهو مع ذلك من اطيب الناس عيشا وأشرحهم صدرا واقواهم قلبا واسرهم نفسا تلوح نضرة النعيم على وجهه وكنا اذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض اتيناه فما هو الا ان نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحها وقوة ويقينا وطمأنينة فسبحان من اشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم ابوابها في دار العمل فاتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة اليها
وكان بعض العارفين يقول لو علم الملوك وابناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف وقال اخر مساكين اهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا اطيب ما فيها قيل و ما اطيب ما فيها قال محبة الله تعالى ومعرفته وذكره أو نحو هذا وقال اخر انه لتمر بالقلب اوقات يرقص فيها طربا وقال اخر انه لتمر بي اوقات اقول ان كان اهل الجنة في مثل هذا انهم لفي عيش طيب
فبمحبة الله تعالى ومعرفته ودوام ذكره والسكون اليه والطمانينة اليه وافراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد و عزماته وإرادته هو جنة الدنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيم وهو قرة عين المحبين وحياة العارفين وانما تقر عيون الناس به على حسب قرة اعينهم بالله عز وجل فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين ومن لم تقر عينه
(1/70)
وفي الذكر اكثر من مائة فائدة
اكثروا ذكر الله تعالى حتى يقال مجنون
وفي الذكر اكثر من مائة فائدة
احداها انه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره
الثانية انه يرضي الرحمن عز وجل
الثالثة انه يزيل الهم والغم عن القلب
الرابعة انه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط
الخامسة انه يقوي القلب والبدن
السادسة انه ينور الوجه والقلب
السابعة انه يجلب الرزق
الثامنة انه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة
التاسعة انه يورثه المحبة التي هي روح الإسلام وقطب رحى الدين
ومدار السعادة والنجاة وقد جعل الله لكل شئ سببا وجعل سبب المحبة دوام الذكر فمن اراد ان ينال محبة الله عز وجل فليلهج بذكره فانه الدرس والمذاكرة كما انه باب العلم فالذكر باب المحبة وشارعها الاعظم وصراطها الاقوم
العاشرة انه يورثه المراقبة حتى يدخله في باب الاحسان فيعبد الله كانه يراه ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الاحسان كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت
الحادية عشرة انه يورثه الانابة وهي الرجوع إلى الله عز وجل فمتى اكثر الرجوع اليه بذكره اورثه ذلك رجوعه بقلبه اليه في كل احواله فيبقى الله عز وجل مفزعه وملجأه وملاذه ومعاذه وقبلة قلبه ومهربه عند النوازل والبلايا
الثانية عشرة انه يورثه القرب منه فعلى قدر ذكره لله عز وجل يكون قربه منه وعلى قدر غفلته يكون بعده منه
الثالثة عشرة انه يفتح له بابا عظيما من ابواب المعرفة وكلما اكثر من الذكر ازداد من المعرفة
الرابعة عشرة انه يورث الهيبة لربه عز وجل واجلاله لشدة استيلائه على قلبه وحضوره مع الله تعالى بخلاف الغافل فان حجاب الهيبة رقيق في قلبه
الخامسة عشرة انه يورثه ذكر الله تعالى له كما قال تعالى ) فاذكروني أذكركم ( ولو لم يكن في الذكر الا هذه وحدها لكفى بها فضلا وشرفا وقال ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى
من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي
ومن ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير منهم
السادسة عشرة انه يورث حياة القلب وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول الذكر للقلب مثل الماء للسمك فكيف يكون حال السمك اذا فارق الماء
السابعة عشرة انه قوت القلب والروح فاذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم اذا حيل بينه وبين قوته و حضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكرالله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت الي وقال هذه غدوتي ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي أو كلاما قريبا من هذا وقال لي مرة لا اترك الذكر الا بنية اجمام نفسي واراحتها لاستعد بتلك الراحة لذكر اخر أو كلاما هذا معناه
الثامنة عشرة انه يورث جلاء القلب من صداه كما تقدم في الحديث وكل صدا وصدا القلب الغفلة والهوى وجلاؤه الذكر والتوبة والاستغفار وقد تقدم هذا المعنى
التاسعة عشرة انه يحط الخطايا ويذهبها فانه من اعظم الحسنات والحسنات يذهبن السيئات
العشرون انه يزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى فان الغافل بينه وبين الله عز وجل وحشه لا تزول الا بالذكر
الحادية والعشرون ان ما يذكر به العبد ربه عز وجل من جلاله وتسبيحه وتحميده يذكر بصاحبه عند الشدة فقد روي الامام أحمد في المسند
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) انه قال
ان ما تذكرون من جلال الله عز وجل من التهليل والتكبير والتحميد يتعاطفن حول العرش لهن دوي كدوى النحل يذكرن بصاحبهن افلا يحب احدكم ان يكون له ما يذكره به هذا الحديث أو معناه
الثانية والعشرون ان العبد اذا تعرف إلى الله تعالى بذكره في الرخاء عرفه في الشدة وقد جاء اثر معناه ان العبد المطيع الذاكر لله تعالى اذا اصابته شدة أو سأل الله تعالى حاجة قالت الملائكة يارب صوت معروف من عبد معروف والغافل المعرض عن الله عز وجل اذا دعاه وساله قالت الملائكة يارب صوت منكر من عبد منكر
الثالثة والعشرون انه ينجي من عذاب الله تعالى كما قال معاذ رضي الله عنه ويروى مرفوعا
ما عمل ادمي عملا انجي من عذاب الله عز وجل من ذكر الله تعالى
الرابعة والعشرون انه سبب تنزيل السكينة وغشيان الرحمة وحفوف الملائكة بالذاكر كما اخبر به النبي ( صلى الله عليه وسلم )
الخامسة والعشرون انه سبب اشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والباطل فان العبد لا بد له من ان يتكلم فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى وذكر اوامره تكلم بهذه المحرمات أو بعضها ولا سبيل إلى السلامة منها البتة الا بذكر الله تعالى والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك فمن عود لسانه ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو ومن يبس لسانه عن ذكر الله تعالى ترطب بكل باطل ولغو وفحش ولا حول ولا قوة الا بالله
السادسة والعشرون ان مجالس الذكر مجالس الملائكة ومجالس اللغو والغفلة ومجالس الشياطين فليتخير العبد اعجبهما اليه وأولاهما به فهو مع اهله في الدنيا والاخرة
السابعة والعشرون انه يسعد الذاكر بذكره ويسعد به جليسه وهذا هو المبارك اين ما كان والغافل واللاغي يشقى بلغوه وغفلته ويشقى به مجالسه
الثامنة والعشرون انه يؤمن العبد من الحسرة يوم القيامة فان كل مجلس لا يذكر العبد فيه ربه تعالى كان عليه حسرة وترة يوم القيامة
التاسعة والعشرون انه مع البكاء في الخلوة سبب لاظلال الله تعالى العبد يوم الحر الاكبر في ظل عرشه والناس في حر الشمس قد صهرتهم في الموقف وهذا الذاكر مستظل بظل عرش الرحمن عز وجل
الثلاثون ان الاشتغال به سبب لعطاء الله للذاكر افضل ما يعطي السائلين ففي الحديث عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
قال سبحانه وتعالى من شغله ذكري عن مسالتي اعطيته افضل ما اعطي السائلين
الحادية والثلاثون انه ايسر العبادات وهو من اجلها وافضلها فان حركة اللسان اخف حركات الجوارح وايسرها ولو تحرك عضو من الانسان في اليوم والليلة بقدر حركة لسانه لشق عليه غاية المشقة بل لا يمكنه ذلك
الثانية والثلاثون انه غراس الجنة فقد روي الترمذي في جامعه من حديث عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لقيت ليلة اسري بي
والقلوب ثلاثة
والقلوب ثلاثة قلب خال من الايمان وجميع الخير فذلك قلب مظلم قد استراح الشيطان من القاء الوساوس اليه لانه قد اتخذه بيتا ووطنا وتحكم فيه بما يريد وتمكن منه غاية التمكن
القلب الثاني قلب قد استنار بنور الايمان وأوقد فيه مصباحه لكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف الاهوية فللشيطان هناك اقبال وادبار ومجالات ومطامع فالحرب دول وسجال وتختلف احوال هذا الصنف بالقلة والكثرة فمنهم من اوقات غلبته لعدوه اكثر ومنهم من اوقات غلبة عدوه له اكثر ومنهم من هو تارة وتارة
القلب الثالث قلب محشو بالايمان قد استنار بنور الايمان وانقشعت عنه حجب الشهوات واقلعت عنه تلك الظلمات فلنوره في صدره اشراق ولذلك الاشراق ايقاد لو دنا منه الوسواس احترق به فهو كالسماء التي حرست بالنجوم فلو دنا منها الشيطان يتخطاها رجم فاحترق وليست السماء باعظم حرمه من المؤمن وحراسة الله تعالى له اتم من حراسة السماء والسماء متعبد الملائكة ومستقر الوحي وفيها انوار الطاعات وقلب المؤمن مستقر التوحيد والمحبة
والناس في الصلاة على مراتب خمسة;
احدهما مرتبة الظالم لنفسه المفرط وهو الذي انتقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها واركانها
الثاني من يحافظ على مواقيتها وحدودها واركانها الظاهرة ووضوئها لكن قد ضيع مجاهدة نفسه في الوسوسة فذهب مع الوساوس والافكار
الثالث من حافظ على حدودها واركانها وجاهد نفسه في دفع الوساوس والافكار فهو مشغول بمجاهدة عدوه لئلا يسرق صلاته فهو في صلاة وجهاد
الرابع من اذا قام إلى الصلاة اكمل حقوقها وركانها وحدودها واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها لئلا يضيع شيئا منها بل همه كله مصروف إلى اقامتها كما ينبغي واكمالها واتمامها قد استغرق قلب شان الصلاة وعبودية ربه تبارك وتعالى فيها
الخامس من اذا قام إلى الصلاة قام اليها كذلك ولكن مع هذا قد اخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه عز وجل ناظرا بقلبه اليه مراقبا له ممتلئا من محبته وعظمته كانه يراه ويشاهده وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطرات وارتفعت حجبها بينه وبين ربه فهذا بينه وبين غيره في الصلاة افضل واعظم مما بين السماء والأرض وهذا في صلاته مشغول بربه عز وجل قرير العين به
فالقسم الاول معاقب والثاني محاسب والثالث مكفر عنه والرابع مثاب والخامس مقرب من ربه لان له نصيبا ممن جعلت قرة عينه في الصلاة فمن قرت عينه بصلاته في الدنيا قرت عينه بقربه من ربه عز وجل في الاخرة وقرت عينه ايضا به في الدنيا ومن قرت عينه بالله قرت به كل عين ومن لم تقر عينه بالله تعالى تقطعت نفسه على الدنيا حسرات وقد روي ان العبد اذا قام يصلي قال الله عز وجل
ارفعوا الحجب فاذا التفت قال ارخوها
وقد فسر هذا الالتفات بالتفات القلب عن الله عز وجل إلى غيره فاذا التفت إلى غيره ارخى الحجاب بينه وبين العبد فدخل الشيطان وعرض عليه امور الدنيا واراه اياها في صورة المراة واذا اقبل بقلبه على الله ولم يلتفت لم يقدر
العبد اذا قام فيالصلاة غار الشيطان منه
والعبد اذا قام فيالصلاة غار الشيطان منه فانه قدم قام في اعظم مقام واقربه واغيظه للشيطان واشده عليه فهو يحرص ويجتهد ان لا قيمة فيه بل لايزال به يعده ويمنيه وينسيه و يجلب عليه بخيله ورجله حتى يهون عليه شان الصلاة فيتهاون بها فيتركها
فان عجز عن ذلك منه و عصاه العبد وقام في ذلك المقام اقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه ويحول بينه وبين قلبه فيذكره في الصلاة مالم يذكر قبل دخوله فيها حتى ربما كان قد نسي شئ والحاجة وايس منها فيذكره اياها في الصلاة ليشغل قلبه بها ويأخذه عن الله عز وجل قيقوم فيها بلا قلب فلا ينال من اقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز وجل الحاضر بقلبه في صلاته فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه واثقاله لم تخف عنه بالصلاة فان الصلاة انما تكفر سيئات من ادى حقها واكمل خشوعها ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقابله فهذا اذا انصرف منها وجد خفة من نفسه واحسن باثقال قد وضعت عنه فوجد نشاطا وراحة وروحا حتى يتمنى انه لم يكن خرج منها لانها قرة عينه ونعيم روحه وجنة قلبه ومستراحه في الدنيا فلا يزال كانه في سجن وضيق حتى
اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد وفي اثر يقول الله تعالى
إلى خير مني إلى خير مني ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه مثل رجل قد استدعاه السلطان فاوقفه بين يديه واقبل يناديه و يخاطبه وهو فى خلال ذلك يلتفت عن السلطان يمينا و شمالا وقد انصرف قلبه عن السلطان فلا يفهم ما يخاطبه به لان قلبه ليس حاضرا معه فما ظن هذا الرجل ان يفعل به السلطان افليس اقل المراتب فى حقه ان ينصرف من بين يديه ممقوتا مبعدا قد سقط من عينيه
وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول في خطبته ايها الناس انكم لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى وان لكم معادا يجمعكم الله عز وجل فيه للحكم فيكم والفصل بينكم فخاب وشقي عبد أخرجه الله عز وجل من رحمته التي وسعت كل شئ وجنته التي
بسالكه وما امر الله عز وجل بأمر الا وللشيطان فيه نزغتان اما تقصير وتفريط واما افراط وغلو فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين فانه ياتي إلى قلب العبد فيستامه فان وجد فيه فتورا وتوانيا وترخيصا اخذه من هذه الخطة فثبطه واقعده وضربه بالكسل والتواني والفتور وفتح له باب التاويلات والرجاء وغير ذلك حتى ربما ترك العبد المامور جملة
وان وجد عنده حذرا وجدا وتشميرا ونهضه وايس ان ياخده من هذا الباب امره بالاجتهاد الزائد وسول له ان هذا لايكفيك وهمتك فوق هذا وينبغي لك ان تزيد على العاملين وان لا ترقد اذا رقدوا و لا تفطر اذا افطروا وان لا تفتر اذا فتروا واذا غسل احدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغسل انت سبعا واذا توضا للصلاة فاغتسل انت لها ونحو ذلك من الافراط والتعدي فيحمله على الغلو والمجاوزه وتعدي الصراط المستقيم كما يحمل الاول على التقصير دونه وان لايقربه ومقصوده من الرجلين اخراجهما
العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة
معنى قول بعض السلف ان العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة ويعمل الحسنة يدخل بها النار قالوا كيف قال يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه منه مشفقا وجلا باكيا نادما مستحيا من ربه تعالى ناكس الراس بين يديه منكسر القلب له فيكون ذلك الذنب انفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الامور التي بها سعادة العبد وفلاحه حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة
ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه ويتكبر بها ويرى نفسه ويعجب بها ويستطيل بها ويقول فعلت وفعلت فيورثه من العجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب هلاكه فاذا اراد الله تعالى بهذا المسكين خيرا ابتلاه بأمر يكسره به ويذل به عنقه ويصغر به نفسه عنده وان اراد به غير ذلك خلاه
نعم.. إنه تحذير شديد اللهجة، مصدره ليس أحد من البشر ولا حتى نبي من الأنبياء بل هو صادر عن رب العالمين تبارك وتعالى، ومن ماذا يحذرنا؟ إنه يحذرنا من مخالفة أمر نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -. فللنظر كيف تعاملنا مع هذا التحذير الإلهي العظيم! وكيف كان موقفنا منه؟ هل توقفنا عن مخالفة أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهل اتبعنا هديه في كل ما جاء به؟ فوقفنا عند حدود ما نهى عنه وامتثلنا بما أمر به؟ وقبل الجواب على هذا السؤال دعونا نجري مقارنة بسيطة: تسير بسيارتك في الطريق فإذا بلوحة مكتوب عليها تحذير: منعطف خطير! فهل تستمر أم تهدئ من سرعتك حتى لا تقع في المنحدر؟ مثال آخر: تجد لوحة مكتوب عليها تحذير: خطر تيار عال! فهل تقترب منه وتلمسه بيدك؟! كلا..
إذن ما بالنا أخي في الله نقرأ تحذير علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ومع ذلك نصم آذاننا ونغمض عيوننا ونستمر في طريقنا غير آهبين بما حذرنا منه؟!! إن هذا لهو الجنون والتهور والسفه! أما من كان في رأسه ذرة من عقل فإنه بلا شك سيتوقف عند هذا التحذير بدل المرة الواحدة ألفا من المرات.
كم من المخالفات لأوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياتنا اليوم؟.. أخي الكريم اسأل نفسك هذا السؤال وحاسبها قبل أن تحاسب واعلم أن المولى - تبارك وتعالى - ما كان ليحذر من شيء إلا وفيه خطر علينا في دنيانا وأخرانا.. يقول - تعالى -: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب" أليم، أي تنزل بهم محنة عظيمة في الدنيا أو ينالهم عذاب شديد في الآخرة. ولعل هذا المخالف يفتتن عند موته ساعة الاحتضار ساعة التمحيص ساعة أن يتسلط عليه الشيطان فلا يصمد أمام هذه الفتنة فيموت على غير شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيختم له بشر فيخسر الخسران المبين، وقد لا يصمد إذا ما أفتتن في قبره وجاءه الملكان يسألانه من ربك؟ ما دينك؟ ومن نبيك؟ فينهار أمام هذه الفتنة فلا يجيب... أعاذنا الله وإياكم من فتنة المحيا والممات.
فلابد لكل عقل أن يتفقد نفسه وأن ينظر حوله ويتفحص نهجه وطريقه هل هو موافق لهدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أم أنه في وادٍ وهدى خير العباد في وادٍ آخر؟ الأمر جد خطير والنتيجة لا تظهر إلا في ساعة العسر والشدة فلا يغتر عاقل باستقرار الأمور وهدوء الأحوال فالعبرة بالمآل ومتابعة الصراط المستقيم، المحجة البيضاء التي أخبرنا الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - أنه تركنا عليها وأنها بيضاء واضحة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
فتش أخي في الله عن أوامر المصطفي - صلى الله عليه وسلم - في حياتك وانظر كم من المخالفات قد وقعت فيها: انظر في صلاتك! وتذكر قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا كما رأيتموني أصلى، انظر في هيئتك، لباسك؟ كم فيها من المخالفات ماأسفل من الكعبين من الإزار ففي النار. تفكر في بصرك: وانظر ماذا نهيت أن تنظر إليه من الحرام. تفكر في سمعك: وانظر ماذا نهيت أن تستمع إليه من الحرام. تفكر في لسانك: الغيبة النميمة قول الزور، وهكذا سائر أعمالك وتعاملاتك من بيع وشراء وأخذ وعطاء وتعامل مع الأهل والأرحام والجيران والخدم والسائقين وفي كل أحوالك.. تفكر في هذه الأمور وحاسب نفسك في ظل هذه الآية واعمل فيها فكرك فما خلق الله لنا العقول إلا لنتفكر بها ونتهتدي بها إلى الحق والصواب. نسأل الله السلامة من كل إثم والفوز بالجنة والنجاة من النار ونسأله أن يجعل أقوالنا وأعمالنا موافقة لهدى المصطفى - عليه الصلاة والسلام - وأن يجعلنا على هديه سائرين وبسنته متمسكين وعلى أثره مقتفين إنه سميع مجيب.
يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله - وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول . . .
وهي صورة زرية داعية إلى الاحتقار والسخرية . زرية بما فيها من ضعف والتواء , وهم يبيتون ما يبيتون من الكيد والمؤامرة والخيانة ; ويستخفون بها عن الناس . والناس لا يملكون لهم نفعا ولا ضرا . بينما الذي يملك النفع والضر معهم وهم يبيتون ما يبيتون ; مطلع عليهم وهم يخفون نياتهم ويستخفون . وهم يزورون من القول مالا يرضاه ! فأي موقف يدعو إلى الزراية والاستهزاء أكثر من هذا الموقف ?
(وكان الله بما يعملون محيطًا . . .
إجمالا وإطلاقا . . فأين يذهبون بما يبيتون . والله معهم إذ يبيتون . والله بكل شيء محيط وهم تحت عينه وفي قبضته ?
وتستمر الحملة التي يفوح منها الغضب ; على كل من جادل عن الخائنين:
قال ابن رجب : فتقوى الله في السر ، هي علاقة كمال الإيمان ، ولها تأثير عظيم في إلقاء الله لصاحبها الثناء في قلوب المؤمنين .
قال أبو الدرداء : ليتق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر ، يخلو بمعاصي الله ، فيلقي الله له البغض في قلوب المؤمنين .
وقال سليمان التميمي : إن الرجل ليصيب الذنب في السر ، فيصبح وعليه مذلته .
وقال غيره : إن العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبين الله ثم يجيء إلى إخوانه فيرون أثر ذلك الذنب عليه .
وهذا أعظم الأدلة على وجود الإله الحق ، المجازي بذرات الأعمال في الدنيا والآخرة ، ولا يضيع عنده عمل عامل ، ولا ينفع من قدرته حجاب ولا استتار .
فالسعيد من أصلح ما بينه وبين الله ، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله ، أصلح الله ما بينه وبين الخلق ، ومن التمس محامد الناس بسخط الله عاد حامده من الناس ذاما ً له .
ومن أعجب ما روى في هذا ، ماروي عن أبي جعفر السائح قال : كان حبيب أبو محمد تاجرا ً يكري الدراهم ، فمر ذات يوم بصبيان ، فإذا هم يلعبون ، فقال بعضهم لبعض : قد جاء آكل الربا . فنكس رأسه ، وقال : يارب ، أفشيت سري إلى الصبيان . فرجع فجمع ماله كله ، وقال : يارب ، إني أسير ، وإني قد أشتريت نفسي منك بهذا المال فأعطتقني ، فلما أصبح تصدق بالمال كله ، وأخذ في العبادة ، ثم مر ذات يوم بأولئك الصبيان ، فلما رأوه قال بعضهم لبعض : اسكتوا ، فقد جاء حبيب العابد . فبكى ، وقال : يارب ، أنت تذم مرة وتحمد مرة ، وكله من عندك .
قال سفيان الثوري : إن اتقيت الله كفاك الناس ، وإن اتقيت الناس لن يغنوا عنك من الله شيئا ً . وودع ابن عون رجلا ً فقال : عليك بتقوى الله ، فإن المتقي ليست عليه وحشة .
قال زيد بن أسلم : كان يقال : من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا .
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا خشيته في الغيب والشهادة ، وفي السر والعلانية
وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ
النفس البشرية ضعيفة شحيحة , إلا من عصم اللّه ; ولا تطهر من هذا الشح إلا أن تعمر بالإيمان , وترتفع على ضرورات الأرض , وتنطلق من قيود الحرص على النفع القريب , لأنها تؤمل في خلف أعظم , وتؤمل في رضوان من اللّه أكبر . والقلب المؤمن يطمئن بالإيمان , فلا يخشى الفقر بسبب الإنفاق , لأنه يثق بأن ما عند الناس ينفد وما عند اللّه باق . وهذا الاطمئنان يدفع به إلى إنفاق المال في سبيل اللّه تطوعاً ورضى وتطهراً , وهو آمن مغبته . فحتى لو فقد المال وافتقر منه , فإن له عوضاً أعظم عند اللّه .
فأما حين يقفر القلب من الإيمان الصحيح , فالشح الفطري يهيج في نفسه كلما دعي إلى نفقة أو صدقة , والخوف من الفقر يتراءى له فيقعد به عن البذل . ثم يبقى سجين شحه وخوفه بلا أمن ولا قرار .
والذي يعاهد اللّه ثم يخلف العهد , والذي يكذب على اللّه فلا يفي بما وعد , لا يسلم قلبه من النفاق:
"آية المنافق ثلاث:إذا حدث كذب , وإذا وعد أخلف , وإذا ائتمن خان " .
فلا جرم يعقب إخلاف العهد والكذب على اللّه نفاقاً دائماً في قلوب تلك الطائفة التي تشير إليها الآية:
(فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا اللّه ما وعدوه وبما كانوا يكذبون). .
ذكر كثير من أهل التفسير في سبب نزولها قصة أخرجها الطبراني في الكبير وابن جرير في تفسيره وغيرهما عن أبي أمامه رضي الله عنه أن ثعلبه بن حاطب الانصاري أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً، قال : ويحك يا ثعلبة! قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، ثم رجع إليه فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً : قال ويحك يا ثعلبة! تريد أن تكون مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو سألت أن يسيل لي الجبال ذهباً وفضة لسالت، ثم رجع إليه فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً، والله لئن آتاني الله مالاً لأوتين كل ذي حق حقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم ارزق ثعلبة مالاً، فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت عنها أزقة المدينة فتنحى بها وكان يشهد الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إليها، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة فتنحى بها، فكان يشهد الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إليها، ثم نمت فتنحى بها فترك الجمعة والجماعات فيتلقى الركبان ويقول ماذا عندكم من الخير وما كان من أمر الناس، فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها...) قال: فاستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقات رجلا من الأنصار ورجلا من بني سليم وكتب لهما سنة الصدقة وأسنانها وأمرهما أن يصدقا الناس وأن يمرا بثعلبة فيأخذا منه صدقة ماله، ففعلا حتى ذهبا إلى ثعلبة فأقرءاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقا الناس فإذا فرغتما فمرا بي ففعلا، فقال : والله ما هذه إلا أخية الجزية!
من عاهد الله
فانطلقا حتى لحقا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ.. إلى قوله يكذبون ) التوبة: 75 ، قال: فركب رجل من الأنصار قريب لثعلبة راحلة حتى أتى ثعلبة، فقال: ويحك يا ثعلبة هلكت! أنزل الله عز وجل فيك من القرآن كذا، فأقبل ثعلبة ووضع التراب على رأسه وهو يبكي ويقول : يا رسول الله يا رسول الله، فلم يقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقته حتى قبض الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتى أبا بكر رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا بكر قد عرفت موقفي من قومي ومكاني من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل مني، فأبى أن يقبله، ثم أتى عمر رضي الله تعالى عنه فأبى أن يقبل منه، ثم أتى عثمان رضي الله تعالى عنه فأبى أن يقبل منه، ثم مات ثعلبة في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه .
هذه القصة لا تصح أبداً وقد ضعفها الأئمة رغم اشتهارها عند المفسرين، قال القرطبي في تفسيره : قلت وثعلبة بدري أنصاري وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان حسب ما يأتي بيانه في أول الممتحنة، فما روي عنه غير صحيح. قال أبو عمر: ولعل قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح انتهى .
وقال ابن حزم في المحلى: وقد روينا أثراً لا يصح، وفيه أنها نزلت في ثعلبة بن حاطب وهذا باطل لأن ثعلبة بدري معروف انتهى.
وقال المناوي في فيض القدير: قال البيهقي: في إسناد هذا الحديث نظر وهو مشهور بين أهل التفسير ، وقال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الأحياء: أخرجه الطبراني بسند ضعيف وقال محد بن طاهر في تذكرة الموضوعات: ضعيف ، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة: ضعيف جداً .
وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف: وهذا إسناد ضعيف جداً، وضعف القصة أيضاً الذهبي في ميزان الاعتدال، والسيوطي في أسباب النزول وغيرهم.
والراجح في تفسير الآية ما ذكره ابن حجر: أن ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله (ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله) الآية: قال هؤلاء صنف من المنافقين فلما آتاهم ذلك بخلوا فاعقبهم بذلك نفاقاً إلى يوم يلقونه ليس لهم منه توبة ولا مغفرة ولا عفو، كما أصاب إبليس حين منعه التوبة.
ولهو الحديث كل كلام يلهي القلب ويأكل الوقت , ولا يثمر خيرا ولا يؤتي حصيلة تليق بوظيفة الإنسان المستخلف في هذه ا لأرض لعمارتها بالخير والعدل والصلاح . هذه الوظيفة التي يقرر الإسلام طبيعتها وحدودها ووسائلها , ويرسم لها الطريق . والنص عام لتصوير نموذج من الناس موجود في كل زمان وفي كل مكان . وبعض الروايات تشير إلى أنه كان تصويرا لحادث معين في الجماعة الإسلامية الأولى . وقد كان النضر بن الحارث يشتري الكتب المحتوية لأساطير الفرس وقصص أبطالهم وحروبهم ; ثم يجلس في طريق الذاهبين لسماع القرآن من رسول الله [ ص ] محاولا أن يجذبهم إلى سماع تلك الأساطير والاستغناء بها عن قصص القرآن الكريم . ولكن النص أعم من هذا الحادث الخاص إذا صح أنه وارد فيه . وهو يصور فريقا من الناس واضح السمات , قائما في كل حين . وقد كان قائما على عهد الدعوة الأولى في الوسط المكي الذي نزلت فيه هذه الآيات .
(ومن الناس من يشتري لهو الحديث). . يشتريه بماله ويشتريه بوقته , ويشتريه بحياته . يبذل تلك الأثمان الغالية في لهو رخيص , يفني فيه عمره المحدود , الذي لا يعاد ولا يعود , يشتري هذا اللهو (ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا)فهو جاهل محجوب , لا يتصرف عن علم , ولا يرمي عن حكمة وهوسيىء النية والغاية , يريد ليضل عن سبيل الله . يضل نفسه ويضل غيره بهذا اللهو الذي ينفق فيه الحياة . وهو سيىء الأدب يتخذ سبيل الله هزوا , ويسخر من المنهج الذي رسمه الله للحياة وللناس . ومن ثم يعالج القرآن هذا الفريق بالمهانة والتهديد قبل أن يكمل رسم الصورة: (أولئك لهم عذاب مهين). . ووصف العذاب بأنه مهين مقصود هنا للرد على سوء الأدب والاستهزاء بمنهج الله وسبيله القويم
|
حال من شرح الله صدره
1/ صورة من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه، ومعه أضواء من الله يسير بها، والناس في الظلمات وهو في أضواء الإيمان، يرى بها كل دقيق، ولهذا إذا وقع هذا الضوء على المعصية انعكس هذا الضوء وصور له هذه المعصية في المخ أنها معصية، وإن كانت دقيقة فإنه يراها كالجبل؛ فهي تغضب الله، لماذا؟ لأن الأضواء عنده قوية، والأضواء لديه كاشفة، يرى بها المعاصي فيبتعد عنها هذا المؤمن -جعلنا الله وإياكم منهم-. يقول ابن القيم متحدثاً عن ابن تيمية: كنا إذا ضاقت بنا الدنيا ونحن في دمشق ذهبنا لزيارته في السجن في القلعة، فوالله ما هو إلا أن نراه حتى يُسرى عنا. ويقول: عندما ننظر إليه تنشرح صدورنا وهو المسجون ونحن طلقاء!! ثم يقول: وكان يقول لنا: المسجون من سجنه هواه، والمأسور من أسر عن مولاه. ويقول: ما يصنع أعدائي بي أنا جنتي وبستاني في صدري، إن سجني خلوة، وإن ترحيلي سياحة، وإن قتلي شهادة، فما يصنع بي أعدائي. هل عندهم أكثر من القتل والموت والسجن والترحيل؟! ويقول: مساكين أهل هذه الدنيا؛ جاءوا إليها وخرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها! قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: التلذذ بعبادة الله. ويقول الآخر: والله لو يعلم أهل الجاه والمال والسلطان ما نحن عليه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف! 2/ والصورة الثانية: صورة معتمة وصورة مشوهة: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر:22] فأولئك في ضلال مبين: حسي ومعنوي. ويل لهم ثم ويل لهم ثم ويل لهم!! ويل لهم في هذه الحياة قبل الممات، فهم يتجرعون مرارة الكفر والمعصية، ومرارة البعد عن الله، أتتصورون أن هؤلاء الذين هم على الكفر وعلى المعاصي والذنوب ليسوا في عذاب الآن؟ والله! إنهم في عذاب الآن قبل الآخرة؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36] ويقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124] فوالله! إنهم لفي عذاب. ويل لهؤلاء الذين يعرضون عن الله، وتقسو قلوبهم عن ذكر الله، وتعيش قلوبهم في ضلال مبين، فويل لهم اليوم وويل لهم غداً عند الموت، يوم تأتي أحدهم الملائكة وتقول له: (يا أيتها الروح الخبيثة -كانت في الجسد الخبيث- اخرجي إلى سخط من الله وغضب). وويل لهم يوم يدخلون في قبورهم وتأتيهم الملائكة وتقول لكل منهم: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: هاه هاه هاه لا أدري، لا يعلم الجواب، فقد ضيع حياته في معصية الله، فتقول له الملائكة: (لا دريت ولا تليت...). وويل له يوم يأتيه عمله الذي عمله في الدنيا، فيتمثل له ذلك العمل في صورة رجل، ويأتيه على هيئة العمل الذي صنعه، إن كان عمله سيئاً فيأتيه، فيقول له: (أبشر بالذي يسوءك، فيقول: من أنت فوجهك الذي يأتي بالشر، يقول: أنا عملك السيئ). ويل له وهو يوقد عليه القبر جمراً أحمر يتقلب عليه ليلاً ونهاراً. ويل له والقبر يضغطه حتى تختلف أضلاعه وتلتقي أضلاع اليمين بالشمال، والشمال باليمين. ويل له ثم ويل له يوم القيامة يوم يبعث من في القبور: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [المعارج:43-44] والذلة ذلة المعصية والكفر ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج:44]. ويل لهم يوم يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر:7-8]. ويل لهم يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:13-16] يعني: سواء صبروا أم لم يصبروا، فهل هناك أحد يصبر على النار؟ لا والله لا أحد يصبر على النار، فلا حول ولا قوة إلا بالله. ويل لهم بعد ذلك: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:48]. ويل لهم يوم ينادون لأخذ كتبهم وأخذ شهاداتهم، إذ هي شهادات ملطخة بجرائمهم؛ لأنه يوجد شهادات مشرفة، وهي الشهادات المملوءة بدرجات عليا مشرفة، فترى في الدنيا الطالب يأخذها ويقول لأهله: انظروا، أما الساقط البليد الذي شهادته كلها دوائر حمراء فلا يعطيها لأهله خجلاً وخوفاً، ولا يذهب لأخذها من مدرسته، وإذا سأله أهله: هل خرجت النتيجة يقول: لا. وهي قد خرجت، ولكن لا يريد أن يعلمهم بالفضيحة، يقول لأهله: قالوا بعد غد، حسناً.. وبعد غد يقولون له: طلعت النتيجة؟ يقول: نعم طلعت، قالوا: بشرنا، قال: قرأوا الأسماء قبل أن أحضر، وقد سمعوا اسمي، وهو يريد أن يأتي بها بالتقسيط كي لا يأتي بالخبر المهول، ولكن غداً إن شاء الله أتأكد، وجاء يوم الغد، قالوا: بشّر، قال: الحمد لله ثلاث مواد فقط، الحمد لله، هناك مجموعة من الزملاء منهم من سقط في ثمان وفي تسع وفي عشر مواد، أما أنا فالحمد لله .. لك الحمد يا رب، ثلاث مواد فقط أعيدها، ولكن ما يهمكم..! أيها الساقط في الدنيا! معك دور ثانٍ وفصل ثانٍ وعلم ثانٍ، وإذا لم تدرس فيمكن أن تعمل. لكن هؤلاء ويل لهم يوم يعطون كتبهم بشمائلهم؛ لأنهم يوم القيامة يريدون أن يغالطوا الله ويأخذوا الكتب باليمين، يرون أهل الإيمان يأخذون كتبهم، يريد أن يكون في الآخرة كذاباً كما كان في الدنيا، يقول الله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْكَاذِبُونَ [المجادلة:18] فيرفعون أيمانهم فتضربهم الملائكة بمقامع من حديد على مناكبهم فتسقط أيمانهم، فما يبقى معه إلا الشمال، فيأخذ كتابه بشماله ويقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:25-27]. ثم يتذكر ما الذي غره؟ ما يغر الإنسان في الدنيا إلا أمران: المال والسلطان، فيقول: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ [الحاقة:28] ما نفعني مالي، فأين السلطة والوظيفة إذ لم ينفع المال؟ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:29] فلا مال ينفع ولا وظيفة تنفع، وإذا به يقول بلسان حاله: أنا الآن في موقف صعب جداً، ثم بعد تلك الحسرة والندامة قال الله تعالى: خُذُوهُ [الحاقة:30] أي: خذوا هذا المجرم الكذاب: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الحاقة:30] والغل: هو وضع القيد والسلاسل في الرقبة: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً [الحاقة:31-32] في الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو أن حلقة من حلق هذه السلسلة وضعت على الأرض لأرفضتها) سَبْعُونَ ذِرَاعاً فاسْلُكُوهُ [الحاقة:32] والسلك: أنها تُدخل من فمه وتُخرج من دبره، من أجل أن يتقلب كالدجاجة في الشواية إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ [الحاقة:33] كان قلبه قاسياً عن ذكر الله، وكان يعيش في ضلال مبين، لم يشرح الله صدره للإسلام لأنه ما طلب الهداية ولا عمل بمقتضاها، فقلبه مغلق عن الدين، مفتوح على كل شيء إلا طاعة الله، يحب كل شيء إلا الصلاة، ويطرب لكل شيء إلا القرآن، ويألف كل شيء إلا المساجد، ويحب الناس كلهم إلا أهل الخير منهم، هذا عبدٌ شيطاني ما نور الله قلبه، ولا شرح الله صدره، وإنما قلبه قاسٍ مقفول عن محبة الله تبارك وتعالى وطاعته، فويل له ثم ويل له ثم ويل له: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22].