أفلا يتدبرون القرآن

أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها

وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ 



قاعدة أن إقامة دين الله في الأرض معناها الصلاح والكسب والفلاح في حياة المؤمنين في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء . لا افتراق بين دين ودنيا , ولا افتراق بين دنيا وآخرة . فهو منهج واحد للدنيا وللآخرة ; للدنيا وللدين . . تجيء هذه القاعدة الإيمانية الكبيرة بمناسبة الحديث عن انحراف أهل الكتاب عن دين الله ; وأكلهم السحت ; وتحريفهم الكلم من بعد مواضعه لينالوا عرضا من أعراض هذه الأرض . . واتباع دين الله كان أجدى عليهم في الأرض والسماء , وفي الدنيا والآخرة لو أنهم اختاروا الطريق: 
(ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ; ولأدخلناهم جنات النعيم . ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل , وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم . منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون). . 
إن هاتين الآيتين تقرران أصلا كبيرا من أصول التصور الإسلامي , ومن ثم فهما تمثلان حقيقة ضخمة في الحياة الإنسانية . ولعل الحاجة إلى جلاء ذلك الأصل , وإلى بيان هذه الحقيقة لم تكن ماسة كما هي اليوم ; والعقل البشري , والموازين البشرية , والأوضاع البشرية تتأرجح وتضطرب وتتوه بين ضباب التصورات وضلال المناهج , بإزاء هذا الأمر الخطير . . 
إن الله - سبحانه - يقول لأهل الكتاب - ويصدق القول وينطبق على كل أهل كتاب - إنهم لو كانوا آمنوا واتقوا لكفر عنهم سيئاتهم ولأدخلهم جنات النعيم - وهذا جزاء الآخرة . وإنهم لو كانوا حققوا في حياتهم الدنيا منهج الله الممثل في التوراة والإنجيل وما أنزله الله إليهم من التعاليم - كما أنزلها الله بدون تحريف ولا تبديل - لصلحت حياتهم الدنيا , ونمت وفاضت عليهم الأزراق , ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم من فيض الرزق , ووفرة النتاج وحسن التوزيع , وصلاح أمر الحياة . . ولكنهم لا يؤمنون ولا يتقون ولا 
يقيمون منهج الله - إلا قلة منهم في تاريخهم الطويل مقتصدة غير مسرفة على نفسها (وكثير منهم ساء ما يعملون). وهكذا يبدو من خلال الآيتين أن الإيمان والتقوى وتحقيق منهج الله في واقع الحياة البشرية في هذه الحياة الدنيا , لا يكفل لأصحابه جزاء الآخرة وحده - وإن كان هو المقدم وهو الأدوم - ولكنه كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا , ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة . . وفرة ونماء وحسن توزيع وكفاية . . يرسمها في صورة حسية تجسم معنى الوفرة والفيض في قوله: (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم). . 
وهكذا يتبين أن ليس هنالك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة ; وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة في الدنيا . إنما هو طريق واحد , تصلح به الدنيا والآخرة , فإذا تنكب هذا الطريق فسدت الدنيا وخسرت الآخرة . . هذا الطريق الواحد هو الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الإلهي في الحياة الدنيا . . 
وهذا المنهج ليس منهج اعتقاد وإيمان وشعور قلبي وتقوى فحسب , ولكنه كذلك - وتبعا لذلك - منهج حياة أنسانية واقعية , يقام , وتقام عليه الحياة . . وإقامته - مع الإيمان والتقوى - هي التي تكفل صلاح الحياة الأرضية , وفيض الرزق , ووفرة النتاج , وحسن التوزيع , حتى يأكل الناس جمعيا - في ظل هذا المنهج - من فوقهم ومن تحت أرجلهم . 
إن المنهج الإيماني للحياة لا يجعل الدين بديلا من الدنيا ; ولا يجعل سعادة الآخرة بديلا من سعادة الدنيا , ولا يجعل طريق الآخرة غير طريق الدنيا . . وهذه هي الحقيقة الغائمة اليوم في أفكار الناس وعقولهم وضمائرهم وأوضاعهم الواقعية . 
لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير الناس وضميرهم وواقعهم , بحيث أصبح الفرد العادي - وكذلك الفكر العام للبشرية الضالة - لا يرى أن هنالك سبيلا للالتقاء بين الطريقين . ويرى على العكس أنه إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه ; وإما أن يختار طريق الآخرة فيهمل الدنيا من حسابه ; ولا سبيل إلى الجمع بينهما في تصور ولا واقع . . لأن واقع الأرض والناس وأوضاعهم في هذه الفترة من الزمان توحي بهذا . . 
حقيقة:إن أوضاع الحياة الجاهلية الضالة البعيدة عن الله , وعن منهجه للحياة , اليوم تباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة , وتحتم على الذين يريدون البروز في المجتمع , والكسب في مضمار المنافع الدنيوية , أن يتخلوا عن طريق الآخرة ; وأن يضحوا بالتوجيهات الدينية والمثل الخلقية ; والتصورات الرفيعة والسلوك النظيف , الذي يحض عليه الدين . كما تحتم على الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة , والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع , والكسب في مضمار المنافع , لأنها وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للدين والخلق , ولا مرضية لله سبحانه 
ولكن . . تراها ضربة لازب ! ترى أنه لا مفر من هذا الحال التعيس ? ولا سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ? 
كلا . . إنها ليست ضربة لازب ! فالعداء بين الدنيا والآخرة ; والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة , ليس هو الحقيقة النهائية التي لا تقبل التبديل . . بل إنها ليست من طبيعة هذه الحياة أصلا . إنما هي عارض ناشى ء من انحراف طارى ء ! 
إن الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة ; وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا . وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هوذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا ; وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي . . 
هذا هو الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية . . ولكن هذا الأصل لا يتحقق إلا حين تقوم الحياة على منهج الله الذي رضيه للناس . . فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة , وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة . والخلافة عمل وإنتاج , ووفرة ونماء , وعدل في التوزيع يفيض به الرزق على الجميع من فوقهم ومن تحت أرجلهم , كما يقول الله في كتابه الكريم . 
إن التصور الإسلامي يجعل وظيفة الإنسان في الأرض هي الخلافة عن الله , بإذن الله , وفق شرط الله . . ومن ثم يجعل العمل المنتج المثمر , وتوفير الرخاء باستخدام كل مقدرات الأرض وخاماتها ومواردها - بل الخامات والموارد الكونية كذلك - هو الوفاء بوظيفة الخلافة . ويعتبر قيام الإنسان بهذه الوظيفة - وفق منهج الله وشريعته حسب شرط الاستخلاف - طاعة لله ينال عليها العبد ثواب الآخرة ; بينما هو بقيامه بهذه الوظيفة على هذا النحو يظفر بخيرات الأرض التي سخرها الله له ; ويفيض عليه الرزق من فوقه ومن تحت رجليه , كما يصور التعبير القرآني الجميل ! 
ووفق التصور الإسلامي يعتبر الإنسان الذي لا يفجر ينابيع الأرض , ولا يستغل طاقات الكون المسخرة له , عاصيا لله , ناكلا عن القيام بالوظيفة التي خلقه الله لها , وهو يقول للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة). وهو يقول كذلك للناس: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه), ومعطلا لرزق الله الموهوب للعباد . . وهكذا يخسر الآخرة لأنه خسر الدنيا ! 

0 comments: