وممن ذهب إلى استحباب المخالطة سعيد بن المسيب، وشريح، والشعبي، وابن المبارك في آخرين. ولكل طائفة فيما ذهبت إليه حجج، ونحن نشير إلى ذلك. أما حجة الأولين ، فقد روى في "الصحيحين" من حديث أبي سعيد قال : قيل: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: قال: أما حجة من اختار المخالطة، فمن ذلك قول النبى صلى الله عليه وآله وسلم: اعلم: أن اختلاف الناس في هذا أيضاً هو كاختلافهم في فضيلة النكاح والعزوبة، وقد ذكرنا أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فكذلك نقول فيما نحن فيه، فلنذكر أولاً فوائد العزلة وهى ست. واعلم: أن من تيسر له بدوام الذكر الأنس بالله، أو بدوام الفكر تحقيق معرفة الله، فالتجرد لذلك أفضل من كل ما يتعلق بالمخالطة. أحدهما: الغيبة، فإن عادة الناس التمضمض بالأعراض والتفكه بها، فإن خالطتهم ووافقتهم أثمت وتعرضت لسخط الله تعالى، وإن سكت كنت شريكاً، فإن المستمع أحد المغتابين، وإن أنكرت أبغضوك واغتابوك فازدادوا غيبة إلى الغيبة، وربما خرجوا إلى الشتم. الثانية: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن من خالط الناس لم يخل ع مشاهدة المنكرات، فإن سكت عصى الله، وإن أنكر تعرض لأنواع من الضرر، في العزلة سلامة من هذا. الثالثة: الرياء، وهو الداء العضال الذي يعسر الاحتراز منه، وأول ما في مخالطة الناس إظهار التشوق إليهم، ولا يخلو ذلك عن الكذب، إما في الأصل، وإما في الزيادة، وقد كان السلف يحترزون في جواب قول القائل: كيف أصبحت، وكيف أمسيت؟ كما قال بعضهم وقد قيل له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا. واعلم: أنه إذا كان سؤال السائل لأخيه: كيف أصبحت؟ لا يبعثه عليه شفقة ولا محبة، كان تكلفاً أو رياء، وربما سأله وفى القلب ضغن وحقد يورث أن يعلم فساد حاله، وفى العزلة الخلاص عن هذا، لأنه من لقي الخلق ولم يخالقهم بأخلاقهم، مقتوه واستثقلوه واغتابوه، ويذهب دينهم فيه، ويذهب دينه ودنياه في الانتقام منهم. الرابعة: مسارقة الطبع من أخلاقهم الرديئة، وهو داء دفين قلما ينتبه له العقلاء فضلاً عن الغافلين، وذلك أنه قل أن يجالس الإنسان فاسقاً مدة، مع كونه منكراً عليه في باطنه، إلا ولو قاس نفسه إلى ما قبل مجالسته لوجد فارقاً في النفور عن الفساد، لأن الفساد يصير بكثرة المباشرة هيناً على الطبع، ويسقط وقعه واستعظامه، ومهما طالت مشاهدة الإنسان الكبائر من غيره، احتقر الصغائر من نفسه، كما أن الإنسان إذا لاحظ أحوال السلف في الزهد والتعبد، احتقر نفسه، واستصغر عبادته، فيكون ذلك داعية إلى الاجتهاد، وبهذه الدقيقة يعرف سر قول القائل: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة. ومما يدل على سقوط وقع الشيء بسبب تكرره ومشاهدته، أن أكثر الناس إذا رأوا مسلماً قد أفطر في رمضان، استعظموا ذلك، حتى يكاد يفضي إلى اعتقادهم فيه الكفر، وقد يشاهدون من يؤخر الصلاة عن أوقاتها، فلا ينفرون عنه نفورهم عن تأخير الصوم، مع أن ترك صلاة واحدة تخرج إلى الكفر، ولا سبب لذلك إلا أن الصلاة تتكرر، والتساهل فيها يكثر، وكذلك لو لبس الفقيه ثوباً حرير، أو خاتماً من ذهب، لاشتد إنكار الناس لذلك، وقد يشاهدونه يغتاب، فلا يستعظمون ذلك، ولا غيبة أشد من لبس الحرير، ولكن لكثرة سماعها، ومشاهدة المغتابين، سقط عن القلوب وقعها، فافطن لهذه الدقائق واحذر مجالسة الناس، فانك لا تكاد ترى منهم إلا ما يزيد في حرصك على الدنيا، وفى غفلتك عن الآخرة، وتهون عليك المعصية، وتضعف رغبتك في الطاعات، فإن وجدت مجلساً يذكر الله فيه، فلا تفارقه فإنه غنيمة المؤمن. وقد فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب وقال عمر رضى الله عنه: في العزلة راحة من خلطاء السوء. وقال إبراهيم بن أدهم: لا تتعرف إلى من لا تعرف، وأنكر من تعرف.وقال رجل لأخيه: أصحبك إلى الحج؟ فقال: دعنا نعش فى ستر الله، فإنا نخاف أن يرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه. وهذه فائدة أخرى في العزلة، وهى بقاء الستر على الدين والمروءة وسائر العورات. وأما انقطاع طمعك، فإن من نظر إلى زهرة الدنيا تحرك حرصه، وانبعث بقوة الحرص طمعه، ولا يرى إلا الخيبة في أكثر المطامع فيتأذى. وفى الحديث: "انظروا إلى من دونكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم". وقال الله تعالى: اعلم: أن من المقاصد الدينية والدنيوية ما يستفاد من الاستعانة بالغير، ولا يحصل ذلك إلا بالمخالطة. وأما التعليم، ففيه ثواب عظيم إذا صحت النية فيه، ومتى كان القصد إقامة الجاه والاستكثار من الأتباع، فهو هلاك الدين، وقد سبق ذلك في كتاب العلم، والغالب في هذا الزمان سوء القصد من المتعلمين، فيقتضي الدين الاعتزال عنه، ولا يحل كتمان العلم، ولا ينبغي أن يغتر بقول من قال: تعلمنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، فإنه أشار بهذه إلى علوم القرآن والحديث ومعرفة سير الأنبياء والصحابة، وذلك يتضمن التخويف والتحذير، وهو سبب لإثارة الخوف من الله سبحانه، فإن لم يؤثر في الحال أثر في المال، فأما علم الكلام وعلم الخلاف، فإنه لا يرد الراغب في الدنيا إلى الله تعالى، بل لا يزال صاحبة متمادياً في حرصه إلى آخر عمره. وأما النفع: فهو أن ينفع الناس، إما بماله أو ببدنه لقضاء حوائجهم، ومن قدر على ذلك مع القيام بحدود الشرع، فهو أفضل من العزلة إن كان لا يشتغل في عزلته إلا بنوافل الصلوات والأعمال البدنية، وإن كان ممن انفتح له طريق العمل بالقلب بدوام ذكر أو فكر، فذاك الذي لا يعدل به البتة. وينبغى أن يفهم أن الرياضة لا تراد لنفسها كما لا يراد ذلك من رياضة الدابة، بل المراد منها أن تتخذ مركباً تقطع عليه المراحل، والبدن مطيه يسلك بها طريق الآخرة، وفيها شهوات إن لم تكسر جمحت براكبها في الطريق، فمن اشتغل طول عمره بالرياضة كان كمن اشتغل طول عمره برياضة الدابة ولم يركبها، ولا يستفيد إلا الخلاص من عضها ورفسها، وهى لعمري فائدة، ولكن ليست معظم المقصود، قيل لراهب: يا راهب، فقال: لست براهب، إنما أنا كلب عقور، حبست نفسي حتى لا أعقر الناس، وهذا حسن بالإضافة إلى من يعقر، من يعقر، لكن لا ينبغي أن يقتصر عليه. وأما التأديب: فهو أن يؤدب غيره، ويتطرق إليه من دقائق الآفات ما يتطرق إلى نشر العلم على ما ذكره. أما الأول فبحضور الجنائز، وعيادة المرضى، وحضور الإملاكات، والدعوات، ففيها ثواب من جهة إدخال السرور على المؤمن. وأما الثاني: فهو أن يفتح بابه للناس ليعزوه أو يهنوه أو يعودوه، فإنهم ينالون بذلك ثواباً، وكذلك إن كان من العلماء فأذن لهم في زيارته. ولكن ينبغي أن يزن ثواب هذه المخالطات بآفاتها، فيرجح العزلة أو المخالطة، وقد كان أكثر السلف يؤثرون العزلة عليها. فإن قيل: فما آداب العزلة؟ قلنا: ينبغي للمعتزل أن ينوى بعزلته كف شره عن الناس، ثم طلب السلامة من شر الأشرار، ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين، ثم تجريد الهمة لعبادة الله تعالى أبداً، فهذه آداب بينة. ثم ليكن في خلواته مواظباً على العلم والعمل، والذكر والفكر، فيجتنى ثمرة العزلة وليمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه وزيارته ليصفو وقته، وليكف عن السؤال عن أخبارهم، وعن الإصغاء إلى أراجيف البلد وما الناس مشغولون به، فإن جميع ذلك ينغرس في القلب حتى ينبعث في أثناء الصلاة، فوقع الأخبار في السمع كوقوع البذر في الأرض، وليقنع باليسير من المعيشة، وإلا اضطره التوسع إلى مخالطة الناس. وليكن صبوراً على ما يلقاه من أذى الناس، ولا يصغي إلى الثناء عليه بالعزلة، ولا القدح فيه بترك الخلطة، فإن ذلك يؤثر في القلب فيقف عن السير في طريق الآخرة. وليكن له جليس صالح يستريح إليه ساعة عن كد المواظبة، ففى ذلك عون على بقية الساعات، ولا يتم الصبر في العزلة إلا بقطع عن الدنيا، ولا ينقطع طمعه إلا بقصر أمله، فيقدر أنه إذا أصبح لا يمسي، وإذا أمسى لا يصبح، فيسهل عليه صبر يوم. وليكن كثير الذكر للموت ووحدة القبر متى ضاق عليه قلبه من الوحدة، وليتحقق أن من لم يحصل في قلبه من ذكر الله ومعرفته ما يأنس به، لم يطق وحشة الوحدة بعد الموت، وأن من انس بذكر الله ومعرفته لم يزل الموت أنسه، لأن الموت لا يهدم محل الأنس والمعرفة، كما قال الله تعالى في حق الشهداء: |
Posted by
Mohamed
at
12:16 AM
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
0 comments:
Post a Comment