عن سهل بن سعد، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ". ] صحيح / صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني، 6661 [. " المؤمن يألف " لحسن أخلاقه وسهولة طباعه ولين جانبه ... فالمؤمن يألف الخير، وأهله ويألفونه بمناسبة الإيمان. " ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف " لضعف إيمانه وعسر أخلاقه وسوء طباعه. والألفة سبب للاعتصام باللّه وبحبله، وبه يحصل الإجماع بين المسلمين، وبضده تحصل النفرة بينهم. وإنما تحصل الألفة بتوفيق إلهي لقوله سبحانه: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ﴾ ] آل عمران: 103 [ ، إلى قوله: ﴿ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ ] آل عمران: 103 [.
قال الماوردي: بين به أن الإنسان لا يُصلح حاله إلا الألفة الجامعة، فإنه مقصود بالأذية محسود بالنعمة. فإذا لم يكن ألفاً مألوفاً، تختطفه أيدي حاسديه، وتحكم فيه أهواء أعاديه، فلم تسلم له نعمة، ولم تَصفُ له مدة. وإذا كان إلفاً مألوفاً، انتصر بالإلف على أعاديه، وامتنع بهم من حساده، فسلمت نعمته منهم، وصَفت مودته بينهم[1].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ". ] صحيح / صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني، 6651 [. ومن ثم عدوا من أعظم أنواع الصبر، الصبر على مخالطة الناس وتحمل أذاهم ... ومخالطة الناس إذا كانت شرعية، فهي من العبادة ... فمن خالطهم بحيث اشتغل بهم عن الله وعن السنن الشرعية، فذا بطال، فليفر منهم. قال حجة الإسلام: وللناس خلاف طويل في العزلة والمخالطة أيهما أفضل؟ مع أن كلا منهما لا ينفك عن غوائل تنفر عنها، وفوائد تدعو إليها. ويميل أكثر العباد والزهاد إلى اختيار العزلة، ومال الشافعي وأحمد إلى مقابله. واستدل كل لمذهبه بما يطول. والإنصاف أن الترجيح باختلاف الناس: فقد تكون العزلة لشخص أفضل والمخالطة لآخر أفضل. فالقلب المستعد للإقبال على الله، المنتهي لاستغراقه في شهود الحضرة، العزلة له أولى. والعالم بدقائق الحلال والحرام، مخالطته للناس ليعلمهم وينصحهم في دينهم أولى، وهكذا[2].
فإذا كان المرء في الإسلام يحسن له المخالطة، فإن هذه المخالطة ستؤدي لتأثر المُخَالط ممن خالطهم. ودليل ذلك ما نقله أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير: فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يُحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة. ] صحيح البخاري،
[.
ولما كان تأثير الأصدقاء بهذه الدرجة، فإن هذا التأثير يكون أقوى وأشد فيما بين الأطفال ولا شك. ذلك أنهم يكونون ما زالوا في مرحلة التشكيل والتطبع، فيسهل تقبلهم لسلوكيات أصدقائهم بسرعة وبدون مقاومة. وهذا ما يؤكد على ضرورة حماية الأطفال من الرذائل والأخلاقيات والسلوكيات السيئة، بمنعها من التسرب إليهم، وذلك بإبعادهم عن قرناء السوء.
ولا يقصد بذلك عزل الأطفال مطلقا عن أقرانهم للحفاظ على أخلاقهم وسلوكياتهم. فوجود الطفل وسط مجموعة من الأطفال يعد من الأمور الهامة في التربية، حيث يتعلمون كيفية معاملة غيرهم، ويتدربون على تقديم التضحيات والتنازلات المختلفة تحقيقا لرغبات الجماعة. كما أن الاختلاط والمصاحبة يعتبران من السنن الاجتماعية الثابتة فيما بين الناس
.
على أن الخُلطة بين الناس قد تؤدي أيضا لضياع الوقت. وهذه من أكبر الآفات التي يمكن أن تنجم عن الاختلاط بين الناس. ولنا في السلف أسوة حسنة بما كان منهم في سبيل المحافظة على أوقاتهم من الضياع فيما لا طائل من ورائه.
يقول ابن الجوزي [3]: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة. ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل. ولتكن نيته في الخير قائمة، من غير فتور، بما لا يعجز عنه البدن من العمل ... وقد كان جماعة من السلف يبادرون اللحظات. فنُقل عن عامر بن عبد قيس، أن رجلاً قال له: كلمني، فقال له: أمسك الشمس! وقال ابن ثابت البناني: ذهبت ألقن أبي، فقال: يا بني دعني فإني في وردي السادس. ودخلوا على بعض السلف عند موته، وهو يصلي، فقيل له. فقال: الآن تطوى صحيفتي.
ويقول [4] : رأيت العادات قد غلبت الناس في تضييع الزمان، وكان القدماء يحذرون من ذلك. قال الفضيل: أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة. ودخلوا على رجل من السلف فقالوا: لعلنا شغلناك، فقال: أصدقكم كنت أقرأ فتركت القراءة لأجلكم. وجاء رجل من المتعبدين إلى سري السقطي، فرأى عنده جماعة، فقال: صرت مُناخ البطالين. ثم مضى ولم يجلس. ومتى لان المزور طمع فيه الزائر، فأطال الجلوس، فلم يسلم من أذى. وقد كان جماعة قعوداً عند معروف، فأطالوا، فقال: إن ملك الشمس لا يفتر في سوقها. أفما تريدون القيام؟! ... وكان داود الطائي يستف الفتيت، ويقول: بين سف الفتيت وأكل الخبز قراءة خمسين آية. وكان عثمان الباقلاني دائم الذكر لله تعالى، فقال: إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر. وأوصى بعض السلف أصحابه، فقال: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا، لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه. ومتى اجتمعتم تحدثتم.
ويقول [5] : وجمهور العالِم على غير الجادة، والمخالطة لهم تضر ولا تنفع. فالعجب لمن يترخص في المخالطة، وهو يعلم أن الطبع لص يسرق من المخالطة. وإنما ينبغي أن تقع المخالطة للأرفع والأعلى في العلم والعمل ليستفاد منه. فأما مخالطة الدون فإنها تؤذي، إلا أن يكون عامياً يقبل من معلمه، فينبغي أن يُخالط بالاحتراز. وفي هذا الزمان إن وقعت المخالطة للعوام عكرت الفؤاد، فهم ظلمة مستحكمة. فإذا اُبتلى العالِم بمخالطتهم، فليشمر ثياب الحذر، ولتكن مجالسته إياهم للتذكرة والتأديب فحسب.
وإن وقعت المخالطة للعلماء، فأكثرهم على غير الجادة، مقصودهم صورة العلم لا العمل به. فلا تكاد ترى من تذاكره أمر الآخرة، إنما شغلهم الغيبة، وقصد الغلبة، واجتلاب الدنيا. ثم فيهم من الحسد للنظراء ما لا يوصف. وإن وقعت المخالطة للأمراء، فذاك تعرض لفساد الدين. لأنه إن تولى لهم ولاية دنيوية، فالظلم من ضروراتها، لغلبة العادة عليهم والإعراض عن الشرع. وإن كانت ولاية دينية، كالقضاء، فإنهم يأمرونه بأشياء لا يكاد يمكنه المراجعة فيها، ولو راجع لم يقبلوا. وأكثر القوم يخاف على منصبه، فيفعل ما أمر به وإن لم يُجبر.
وإن وقعت المخالطة للمتزهدين، فأكثرهم على غير الجادة، وعلى خلاف العلم، قد جعلوا لأنفسهم نواميس، فلا يتنسمون ولا يخرجون إلى سوق، ويظهرون التخشع الزائد وكله نفاق. وفيهم من يلبس الصوف تحت ثيابه، وربما لوح بكمه ليرى. وقد حكي عن طاهر بن الحسين أنه قال لبعض المتزهدين: مذ كم قدمت العراق؟ قال: دخلتها منذ عشرين سنة، وأنا منذ ثلاثين سنة صائم. قال: سألناك عن مسألة، فأجبت عن اثنتين.
فمن رزقه الله سبحانه النظر في سير السلف، ووفقه للإقتداء بهم، آثر أن يعتزل عن أكثر الخلق، ولا يخالطهم، فإنه من خالط أوذي. ومن دارى لم يسلم من المداهنة. فالنصح اليوم مردود.
فما أنفس هذا الكلام! وهكذا يكون الفاصل بين الاختلاط مع الناس والانعزال عنهم حدا دقيقا، يجب على المرء أن يستشعره. فمتى تحقق له الانتفاع بالمخالطة، من تعلم العلوم الشرعية، أو مصاحبة العلماء والزهاد، أو التحلي بالأخلاق الحميدة، كان الاختلاط أنفع وأفضل. أما إذا ترتب على هذا الاختلاط مفاسد عظيمة، مثل الانشغال عن ذكر الله، أو الوقوع في الغيبة أو النميمة، أو اكتساب الأخلاق المرذولة، كان من الأولى ترك هذا الاختلاط، والانعزال عن الناس. وكل امرئ طبيب نفسه في ذلك
يقول الشاعر:
جفوت أناساً كنت آلف وصلهم * وما بالجفا عند الضرورة من باس
فلا تعذلوني في الجفاء فإنني * وجدت جميع الشر في خلطة الناس
والمراد من الشعر ومن التمثل به الاعتزال عن الخلق طلباً للسلامة لا ما يفهم من لفظ
وقد أولع الشعراء قديماً وحديثاً من هذا المعنى بالتبرم بالناس والاستيحاش من الخلق وذم
الزمان وأهله، فمن ذلك قول أبي العتاهية
:
بَرِمْتُ بالناس وأخلاقهم * فصرت أستأنس بالوحدة
ما أكثر الناس لعمري وما * أقلهم في حاصل العِدّه
ونحوه قول الآخر:
ما أكثر الناس بل ما أقلهم * والله يعلم أني لم أقل فَنَدا
إني أفتح عيني حين أفتحها * على كثير ولكن لا أرى أحدا
وقول الآخر:
مخالط الناس في الدنيا على خطر * وفي بلاء وصفو شِيبَ بالكدر
كراكب البحر إن تسلم حُشاشته * فليس يسلم من خوف ومن حذر
وقول الآخر:
قد لزمت السكون من غير عيّ * ألزمت الفراش من غير عله
وهجرت الإخوان لما أتاني * عنهم كل خصلة مضمحله
وقول الآخر:
إن بني دهرنا أفاع * ليس آمن ساوَرَتْ طبيبُ
فلا يكن فيك بعد هذا * لواحد منهم نصيب
وقول الآخر ويعزى للإمام الشافعي -رضي الله عنه-:
ليت السباع لنا كانت مجاورة * وليتنا لا نرى مما نرى أحدا
إن السباع لتهدا في مرابضها * والناس ليس بهادٍ شرهم أبدا
فاهرب بنفسك وأستأنس بوحدتها * تعش سليماً إذا ما كنت منفردا
قول طرفة بن العبد:
كل خليل كنت خاللته * لا ترك الله له واضحه
كلهمُ أروع من ثعلب * ما أشبه الليلة بالبارحه
وقول امرئ القيس:
كذلك جدي ما أصاحب صاحباً * من الناس إلاّ خانني وتغيرا
وقول الآخر
:
وزهدني في الناس معرفتي بهم * وطول اختباري صاحباً بعد صاحب
فلم تُرِني الأيام خلا تسرني * مباديه إلاّ خانني في العواقب
ولا قلت أرجوه لدفع مُلِمّةٍ * من الدهر إلاّ كان إحدى المصائب
"وقال أبو فراس:
بمن يثق الإنسان فيما ينويه * ومن أين للحر الكريم صِحاب
وقد صار هذا الناس إلا أقلهم * ذئاباً على أجسادهنّ ثياب
وقال محمد بن تميم
:
لك الخير كم صاحبت في الناس صاحباً * فما نالني منه سوى الهم والعنا
وجربت أبناء الزمان فلم أجد * فتى منهم عند المضيق ولا أنا
وقول الآخر
:
دَع الإخوان إنْ لم تلق منهم * صفاء واستعِنْ واستغْنِ باللهْ
أليس المرء من ماء وطِين * وأي صفا لهاتيك الحبِلَّه
ومثله:
ومن يكُ أصلهُ ماء وطيناً * بعيد من جِبِلَّتِه الصفاء!
0 comments:
Post a Comment